سوف يبقى الفشل مرّا إذا لم تبتلعه- أنيس منصور.
أنت هناك ، في إطارٍ أزرقِ اللون يميلُ نوعا ما إلى الأسودِ أو بدرجةٍ أقل إلى الرماديّ . تحت سماءٍ تزمجر بأقصى قواها معلنةً عن عاصفتها القادمة في حين أنك لا تمتلك من وسيلةٍ للدفاع سوى ذراعيك الهزيلتين . أما أنا ، فإنني أراقبُ تحركاتك المستغيثة من اليابسة دون أن أبذل أدنى مجهودٍ جسديّ أو معنويّ لإنقاذك من يدِ العدوِ فكل ما كان يتراقص في ذهني آنذاك هو إن كانت تلك الكتلة المتخبطة في وسط المحيط عبارة عن إنس ، جان أو مجرد سمكة أضاعت طريق العودة ؟أقنعتُ ذهني بالإمكانية الأخيرة و إن كان في ذلك شيئا من الغرابة . ثم رحتُ أتصورُ حجم الأسى الذي قد يخالجها حينما تعي أنه لم يعدْ بإمكانها العودة ثانية .
هذه الصورة التراجيدية بادرت إلى ذهني جملةً عاديةً في صياغتها ، عميقةً في معناها كنتُ قد قرأتها في رواية مئة عام من العزلة : « ليس مهما فالأمر الأساسي ألا نفقد الإتجاه» . ما الذي يحدث يا ترى ، بعدما نفقد الإتجاه ؟
كأن نعجن حياتنا على شاكلة حلمٍ ، قمنا بحمله داخل رحمِ أمنياتنا فتُبلل العجينة فجأةً و تُمحى كل النقوش التي جاهدنا لرسمها طيلة قرنٍ من الزمن . كيف سيكون بمقدورنا أن ننحت شيئا على ذلك القدر من السحر ثانيةً ؟
فالأكثرُ إيلامًا ليس أن يتخلى المرءُ عن حلمه و إنما أن يتبناه شخصًا آخرًا على مرأى من عينيه . سيكون عليه بعدها أن يتحمل عبء خسارته و كأنّه لاعب قمار لم يختر أوراقه جيدّا فَحِيز على كل أملاكه و هكذا سيُسلمهم ، بكامل رضاه، مفاتيح قدره.
أركز إنتباهي على تلك النقطة مجددا ، متسائلة إن كان بوسعِ سمكةٍ ما أن تطفو فوق سطح الماء بتلك الطريقة الإنسانية فقد خيّل لي لأكثر من مرةٍ ، أنها مدت ذراعيها عاليّا قبل أن تغرق مجددا مكررة الكرة طيلة فترة مراقبتي .
لا أدري لِم أواصل المشاهدة دونَ أن أتكبد عناء الإتصال بالإسعاف و كأنّ في المشهد متعةً خاصةً.
أحمد خالد توفيق يصف الغرق بأنّه الوقوع في مكان ليس لك و هكذا سأضيفُ بأنّه التعلق بحبٍ ليس من حصتك . فعلى الإنسانِ أن يكون على قدرٍ مترفٍ من الغباء ليغتال صحته و عائلته في سبيلِ عمله ليقعَ في النهاية في هاوية الفشل . فكل تخبطاته اللاحقة لن تسعفه الصعود إلى السطح مجددا إلى أن يتعبه التيار فيكف عن المحاولة و تكف الحياة عن النبض في جوفه .
تماما كمن يتابع مصارعة الثيران ، أنتفض أمام مصارعتك لتلك الأمواج التي تغطيك من فروة رأسك إلى أخمص قدميك بينما ما زلتَ تشهقُ حياةً و تزفرُ قوةً. أعودُ بشريط أفكاري إلى الخلف لأقتنع بأنك جنيّ ماردٌ وُضع في مركز البحرِ لاستدراجي نحوه لا غير فأُبتلعُ ما إن أخطو بمحاذاته . من ذا الذي بوسعه أن يثبتَ لي أنّ ليس هنالك خدعةً شيطانيّةً دُبرت إنتقامًا من نجاحي ؟
أحيانًا ، أشعرُ بأنّه يتعين عليّ العملَ كحارس ليليّ لأحلامي لِكيلاَ تُختطف مني . شاهقةٌ هي ، لامعةٌ أكثر مما تستوجبه الأحلام ، ناجحةٌ حتّى قيدَ التنفيذ و عليّ أن أطمسَ هويتها لئلا يرغبَ بها شخصا آخرًا . أجربُ كلّ الصناديق و العلب واحدة تلو الأخرى لعلّها تتسع لتكديسها ثم و كأنني أغطي على جريمةٍ ما ، أسرعُ الخطى لتخبئتها تحت فراشي .
هل ستفضحني حالتي المتوترةِ ، الملتفة إلى الوراء مرارًا و الحابسة أنفاسها عن رغبتي في الحفاظ عمّا تبقى لي منها ؟
ذلكَ أنّه لن يكون بمقدوري أن أواصلَ العيش دون أن أحتضنها كلّ ليلة ،مقبلةً خدها و مستنشقةً رائحةَ المستقبلِ العابقةِ منها . إعتدتُ لرُبعِ عمرٍ أن أُرضعها مني ، غير مكترثةٍ بمقدارِ الطاقة المسلوبة من جسدي في سبيلِ نموها و لا حتّى بدرجةِ الإرهاق المكدسة تحتَ جفنيًّ من أجل سلامتها و ها أنا ذا أفقدها كلها ، دفعةً واحدةً دون أن تستطيعَ أمومتي شيئا أمام موتها المباغت.
أتنهدُ و أنا أغمض عينيّ قليلاً فكلّ تلك الأمواج المتلاطمةِ قد أحدثت بمقلتيّ الكثير من الإعياء إذ باتت رؤيتي ضبابية بعض الشيء.أعيد فتحها ببطءٍ ، مترددةً من مشاهدة نفس السيناريو السابق حتّى أنّني كنتُ على شفا حفرة من الإنسحاب إلى الوراءِ و المغادرةِ دون أن أنبس ببنت شفة.
و لكن شيئا ما أثار إنتباهي .
إتسعت عينيّ على مصرعيهما حينما إختفت الصورة كليًّا من سطح الماء و كأنّها لم تكن قط موجودة و بينما كانت الأمواج تعود إلى ركودِها و الفضاء إلى زُرقتهِ الهامدة ، كنتُ أشعرُ برئتيّ تضغط على قفصي الصدري و تحفر كل زواياه بمطرقة حديديّةٍ. هرعتْ يدي اليمنى نحو عنقي لإسعافه من وتيرة تنفسي المتسارعة فيما كانت اليسرى تصعد تارة نحو معدتي و تارةً تهبط نحو بطني .
مرةٌ أخيرةٌ ، نقلتُ نظري بإتجاه الأفق بحثًا عن سراب استنجادك أو حتّى عن نقطة هلاميّة تثبت لي وجودك و تماديّا في الجنون ، تقدمتُ بإتجاه اليم لعليّ ألمحُ طرفًا قد اقتلعه منك الطوفان أو ملبسٍ جردك منه اللجُ .
في ذروة توتري أتساءل ، لِمَ قد استحوذت على إهتمامي الآن بعدما كنتُ هنا ، بعيدًا عن الشاطئ ، أنتشي بحالك المعذبة ؟
خطوةٌ تليها الأخرى ، أطل برأسي قليلاً للأمامِ لأرى إنعكاسات مخاوفك فلم أرَ سوى مخاوفي الخاصة.
و هنالك فقط أيقنتُ بأنني أنا من كنتُ أغرق منذ البدء و بأنك أنت من كنتُ تشاهدني من على اليابسة.
غرقتُ و غرقتْ معي أحلامي .